الأسس العصبية للغة والهوية
تعتبر اللغة من بين الوظائف المعرفية المعقدة هذا ما يجعلها محل اهتمام الكثير من الباحثين من ميادين مختلفة.
العلوم العصبية تهتم باللغة كونها وظيفة من وظائف الدماغ ، و بفضل تقنيات التصوير العصبي و خاصة تقنيات التصوير العصبي الوظيفي (التصوير بالرنين المغناطيسي IRMf و التصوير بانبعاث البوزيترون PET) توصلت إلى اكتشاف الكثير من خبايا اللغة في الدماغ ، سواء اللغة المكتوبة أو اللغة المقروءة، ، عند الراشد، عند الطفل و حتى عند الأجنة. و من بين ما توصلت إليه أبحاث العلوم العصبية، تمركز وظائف اللغة في الفص الأيسر من الدماغ، هذا ما جعل الباحثين يطلقون تسمية الفص السائد على الفص الأيسر و استعمال مصطلح “السيطرة الدماغية” و مصطلح “التخصص النصفي” لوصف معالجة المعطيات و المعلومات اللغوية من طرف النصف الأيسر. هذا التخصص النصفي تشير الدراسات أنه يتأسس مبكرا في دماغ الطفل.
دراسات العلوم العصبية اهتمت كذلك برصد البنى العصبية التي تنشط خلال تعلم لغة ثانية غير لغة الأم، و من بين ما توصلت إليه الأبحاث، تدخل منطقتين عصبيتين في معالجة اللغة : منطقة فرنيكي (Wernicke) و منطقة بروكا (Broca). الأولى تسمح لنا بفهم اللغات و الثانية تسمح لنا بالتعبير شفهيا بلغة أو عدة لغات. اشتغال هاتين المنطقتين مختلف. منطقة بروكا تخلق حيز خاص لكل لغة في حين أن منطقة فرنيكي لا تقوم باي تمييز.
أما مفهوم الهوية (l’identité) فهو يرتبط بمفهوم الذات (le Self) ، و في الميدان المعرفي الذي يعتبر السيرورات العقلية كتتابع مراحل مخصصة لمعالجة المعلومة أو لتنفيذ وظيفة خاصة، يتفق الباحثون على تعريف الذات (le Self) كنوع من التمثيلات المعرفية و الوجدانية، على شكل لفظي (لغوي) أو بصري و التي تضع الذات في الماضي و في الحاضر، كما تضعه في “هنا” و “الآن”. Northoff G, Bermpohl F.,) (2004 . و رغم تعدد تعاريف الذات، إلا أنه توجد عناصر مشتركة بينها، يتجلى من خلالها أن الذات هي أصل تكوين الهوية. هذه البنية من المعارف تسمح للشخص الإجابة على السؤال “من أنا؟”. تتكون من مجموعة من التمثيلات التي لدى الفرد عن نفسه،من وجهة نظر جسمية، اجتماعية، سلوكية و حتى عاطفية، هي في علاقة مع الذاكرة لأن مادة الذات (le Self) تبقى قبل كل شيء تمثيلات ذاكرتية. التعريف الذي اقترحه (Kihlstrom) و آخرون يلخص جيدا هذه الفكرة : الذات هي تمثيل ذهني شخصي لشخصية الفرد أو هويته،مكونة انطلاقا من التجارب المعاشة،الأفكار المرمزة في الذاكرة، مكونة و مبنية بمجموعة من المخططات،النماذج،الصور و الأهداف، كل منها محدد بمعلومات وصفية عن سمات مميزة، أدوار، سلوكات، قواعد و حتى إجراءات استدلال. (Duval C, Eustache F,Piolino P,2007)
و بهدف التعرف على البنى العصبية التي تدعم الذات (le Self) قام العديد من الباحثين بدراسات باستخدام تقنيات التصوير العصبي، (Craik) مثلا قام بدراسة باستعمال التصوير بالبوزيترون ، تشير نتائجها إلى أن : الترميز ينشط المناطق ما قبل الجبهية اليسرى، و مناطق أخرى (التلفيف الصدغي العلوي و الأوسط و التلفيف الطوفي) مشابهة لتلك التي تنشط في انواع أخرى للترميز الدلالي، و أيضا تنشيط خاص في الفص ما قبل الجبهي الأيمن، تقع في نفس المناطق التي تتدخل خلال الاسترجاع في الذاكرة العرضية. (Lalanne J,) (Grolleau P, Piolino P., 2010 (Northoff) و آخرون، يربطون بين عملية المعالجة في الذات و البنى القشرية الإنسية (médianes)، هذه البنى تضم القشرة ما قبل الجبهية (orbito-médian)، القشرة الطوفية الامامية، القشرة ما قبل الجبهية (dorsomédian) و القشرة الطوفية الخلفية. البنى القشرية الإنسية (médianes) تعتبر حسب الباحثين كوحدة تشريحية للعمليات المتعلقة بالذات (الهوية). القشرة الإنسية ما قبل الجبهية، في أجزائها الظهرية و البطنية، تتدخل خصوصا في عمليات التمييز بين الذات و الآخرين.
سنحاول في هذا البحث التطرق إلى القواعد العصبية للغة و القواعد العصبية للهوية على ضوء دراسات العلوم العصبية التي استكشفت اللغة و الهوية في الماغ باستعمال تقنيات التصوير العصبي الوظيفي.
نسيبة جماد[1]
[1] طالبة دكتوراه تخصص علم النفس العصبي – جامعة الجزائر 2 “ابو القاسم سعد الله”- الجزائر