دور اللغة في الصراعات السياسية جنوب السودان نموذجاً
اللُّغة كمحدد ثقافي وناقل للقيم والمفاهيم تعتبر أكثر من كونها أداة للتواصل باعتبار أن الفرد والجماعة يفكران من خلال اللُّغة ومن ثَمّ تتحدد نظرة الفرد والجماعة إلى نفسها وإلى الآخر وحتى نظرتها إلى العالم، فاللُّغة أهم وأخطر بكثير من أن تكون مجرد أصوات وأدوات للتفاهم أو تبليغ فكرة معينة، فهي على مستوى الماضي الذاكرة الجماعية الحافظة لخلاصة تجربتها في التاريخ وحصيلة ما أسست لنفسها من أساليب النظر والفكر والتقييم والاكتشاف، وهي على مستوى الحاضر ضمير معبر عن الهُوِيَّة القومية للأمة وما انتهت إليه من درجات النضج والنمو، وهي على مستوى المستقبل طريقة وحيدة لكل نمو داخلي عضوي يمكن أن يستفيد من التجارب الإنسانية دون أن يركن إلى التواكل والبحث عن الحلول الجاهزة الملفقة أو يجنح إلى الاتباع فيقبل الاستلاب ويفقد القدرة على الإبداع ويستقيل من كل مهمة في صناعة التاريخ والمساهمة في إثراء الثقافة الإنسانية.
وترتبط اللُّغة بالسلطة والدولة والديمقراطية، فالسياسة هي السلطة الحاضرة واللُّغة هي السلطة الغائبة، ويوجد تعريف شائع وسط علماء الاجتماع السياسي يقول بأن الدلالة دومًا في خدمة السلطة ولا يمكن تجاوز ما قاله ماركس من أن الآيديولوجيا في جذورها تعتبر مضمونًا نقديًّا، حيث إنها وسيلة لكشف الأشكال الخفية للسلطة في المجتمع، وأن لها علاقة جوهرية بالثقافة وعملية الاندماج الوطني، وذلك من خلال التضليل الذي تمارسه بشرعيتها لكل أشكال الهيمنة في المجتمع
بالنظرة الفاحصة إلى أغلب الدول الإفريقية والعربية بعد الاستقلال نجد أن تلك الدول عملت على استقرارها إلى حد ما في ميزان السياسة والاقتصاد وتنبهت إلى قضايا أكثر فاعلية وتأثيرًا، وهي قضايا اللُّغة والثقافة والحضارة والهُوِيَّة، وهي ما يشكل الصراع الحقيقيّ الحديث والذي يمكن القول بأن الدول الاستعمارية السابقة قد اتخذته بديلاً للاستعمار السياسي السابق والمعروف.
ومن الجدير بالذكر أن الأوضاع اللُّغوية في السودان، وبخاصة في ضوء علاقة الشمال بالجنوب، قد جعلت من اللُّغة عاملا مهمًّا من العوامل التي أدَّت إلى حدوث مشكلة الاندماج الوطني داخل المجتمع في السودان, حيث لعبت اللغة دور هام فى الصراعات السياسية بين شمال وجنوب السودان ,فالجنوب السوداني قد عانى كثيرًا من الأوضاع اللُّغوية المتردية التي اتبعها الشمال في سياسته اللُّغوية غير المنصفة للغات الجنوب والتي طالما اهتمت باللغة العربية وأضفت عليها طابع القداسة الدينية، بل دائمًا كان يحاول الشماليون فرضها بالقوة على الجنوبيين من خلال سياسة الاستعراب القهري للجنوبيين إلى جانب الاستعلاء اللُّغوي الذي مارسه الشماليون على الجنوبيين وتولَّد معه عنف لغوي رفضه الجنوبيون، بل وإلى عدم تفاهم كبير وأزمة ثقة بينهم مِمَّا أدى بدوره إلى صعوبة حدوث اندماج وطني بين الشمال والجنوب، من ثَمّ فإن عنصر اللغة باعتباره عنصرًا هامًا من عناصر مشكلة الاندماج الوطني هذا العنصر الذي قد لا يظهر في دول أخرى تعاني من مشكلة الاندماج الوطني إلا أنه يظهر بوضوح وبتأثير سلبي في المشكلة السودانية التي تفككت فيها أواصر الاندماج الوطني والوحدة الوطنية.
دور اللغة في الصراعات السياسية
رشا سعيد صبحي[1]
[1] مدرس مساعد بقسم الانثروبولوجيا ،معهد البحوث والدراسات الأفريقية