اللغة والهوية والسياسة في جمهورية جنوب أفريقيا
اللغة والهوية والسياسة في جمهورية جنوب أفريقيا
اللغة ظاهرة اجتماعية، تتأثر بالتغيرات الحادثة في محيطها إيجابا وسلبا، وقوة وضعفا؛ وهي كالكائن الحي تنمو وتزدهر وتشيب وتندثر، إذا لم تتوافر لها عوامل الديمومة والاستمرار المستمدة من الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والعلمية في المجتمع المعني. وهنا تبدو العلاقة واضحة بين السياسة بالمعنى الشامل (اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، تعليمية،……) واللغة؛ في ظل علاقات التأثير والتأثر بين الجماعات المتحدثة بتلك اللغة وسياسات النظم والحكومات المختلفة.
تعتبر اللغة بمثابة الوعاء الذي تتشكل من خلاله أفكار الشعوب ومشاعرهم وطموحاتهم وارادتهم فيما يعرف بالوعي الجمعي، وفيها ـ أي اللغةـ تُحفظ تلك المواريث وبها تنتقل من جيل إلى جيل. فلغة الآباء والأجداد هي مستودع ومرآة ما لشعب أو أمة أو جماعة من عادات وتقاليد، وفلسفة وفكر وعقائد. ومن هنا تتبدى علاقة اللغة بالهوية. فالهوية لا تولد مع الإنسان بل هي نتاج تفاعل الأفراد مع الوسط الاجتماعي المحيط بالمعني الواسع، في ظل ما يتلقاه الفرد من مؤثرات خارجية في إطار تفاعله مع الآخرين، وما يتضمنه ذلك التفاعل من معارف ومواقف وذكريات ومشاعر إيجابية وسلبية. تسهم في مجملها في بلورة مفاهيم ال “أنا” وال “أخر”. التي في جوهرها بلورة لتمايزات الهوية بمعرفة من “نحن” ومن “هم”. ومرة ثانية تلعب اللغة دورا جوهريا في التمييز والتمايز في هذا الشأن.
وفي ظل ذلك الارتباط اللصيق بين اللغة والهوية، فإن قرار اتخاذ لغة رسمية في دولة ما يمثل قرارا حيويا بالنسبة لمواطني تلك الدولة، وهو أمر تتزايد أهميته وخطورة تبعاته في المجتمعات المنقسمة المتعددة اللغات على نحو ما هو الحال في معظم الدول الأفريقية.
وتسعى هذه الورقة لدراسة العلاقة أثر تلك الرابطة الوثيقة بين اللغة والهوية على السياسة في جمهورية جنوب أفريقيا، من خلال عرض الخريطة اللغوية في مجتمع جنوب أفريقيا، وأهم اللغات والجماعات المتحدثة بها والثقل الديموجرافي (السكاني لكل منها)، ثم عرض أنعكاسات المطالب اللغوية في مرحلة التحول الديمقراطي في جمهورية جنوب أفريقيا، وكيف تمت إدارة تلك المطالب ومدى الاستجابة لها في المفاوضات الدستورية، ومبررات ذلك، وصولا إلى تقييم واقع السياسة اللغوية في جمهورية جنوب أفريقيا
ومستقبل التعدد اللغوي في جمهورية جنوب أفريقيا في ضوء التحولات السياسية والمعطيات الاجتماعية والاقتصادية.
د. محمد عاشور مهدي