القول الفصل في اجتهاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
القول الفصل في اجتهاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
تعريف الاجتهاد لغة وشرعا
الاجتهاد في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحصيل الشيء، ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة ومشقة, تقول: اجتهدت في حمل الصخرة ولا تقول: اجتهدت في حمل النواة، وهو مأخوذ من الجهد – بفتح الجيم وضمها – وهو الطاقة، والاجتهاد في الاصطلاح: هو “استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية”([1]).
اختلف العلماء في اجتهاد الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – فهناك من أنكر اجتهاد الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – وقال: إنّ كل ما فعله رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أو قاله إنما هو بوحي من الله تعالي مستدلا بقوله جل وعلا: (وما ينطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى) ([2])، وبقوله جل ثناؤه: (إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) ([3]) .
وقد بوّب البخاري([4]) – رحمه الله – في صحيحه مشيرا إلي الخلاف في ذلك فقال: “باب ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول: لا أدري، أو لم يجب حتي ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا قياس لقوله تعالي: (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)
اختلفت أنظار شرّاح البخاري أيضا في تفسير الأحاديث التي أوردها البخاري في اجتهاد النبي – صلى الله عليه وسلم -: هل هذه الأحاديث التي وردت في ضرب الأمثال في الأشياء المتشابهة تدل على اجتهاد الرسول – صلى الله عليه وسلم – أم لا تدل؟
يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني([5]) موضّحا: “وإنما أراد أنه – صلى الله عليه وسلم – ترك الكلام في أشياء وأجاب بالرأي في أشياء، وقد بوّب لكل ذلك بما ورد فيه، وأشار إلى قوله بعد بابين، “باب من شبّه أصلا معلوما بأصل مبيّن”، وذكر فيه حديث: (لعلّه نزعه ([6]) عرق)([7]) وحديث: (فدَينُ الله أحق أن يقضى) ([8])، وبهذا يندفع ما فهمه المهلّب([9]) والداودي([10])، ثم نقل ابن بطّال([11]) الخلاف هل يجوز للنبي أن يجتهد فيما لم ينزل عليه …، وقد ذكر الإمام الشافعي- رحمه الله – المسألة في كتاب الأم، وذكر أن حجة من قال: إنه لم يسّن شيئا إلا بأمر، وهو على وجهين إما بوحي يتلى على الناس، وإما برسالة عن الله أن افعل كذا، قول الله تعالي: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) ([12])، فالكتاب ما يتلي والحكمة السنة، وهو ما جاء به عن الله بغير تلاوة، ويؤيد ذلك قوله في قصة العسيف: (لأقضين بينكما بكتاب الله)([13]) أي: “بوحيه”، واحتج من ذهب إلى أنه كان يجتهد بقول الله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) ([14])، والأنبياء أفضل أولي الأبصار، ولما ثبت من أجر المجتهد ومضاعفته، والأنبياء أحق بما فيه جزيل الثواب، ثم ذكر ابن بطّال- رحمه الله – أمثلة مما عمل فيه – صلى الله عليه وآله وسلم – بالرأي من أمر الحرب وتنفيذ الجيوش وإعطاء المؤلّفة، وأخذ الفداء من أسارى بدر، واستدل بقوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ([15])، قال: “ولا تكون المشورة إلا فيما لا نص فيه”” ([16]).
([1]) – نهاية السول شرح منهاج الوصول ص 394
([2]) – سورة النجم: الآيتان (3-4)
([3]) – سورة النساء: من الآية (105)
([4]) – محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله: ولد في بخارى، ونشأ يتيما، وقام برحلة طويلة (سنة 210) في طلب الحديث، فزار خراسان والعراق ومصر والشام، وسمع من نحو ألف شيخ، وجمع نحو ست مئة ألف حديث اختار منها في صحيحه ما وثق برواته، وهو أول من وضع في الإسلام كتابا على هذا النحو. وهو “الجامع الصحيح” المعروف بصحيح البخاري، وله أيضا مصنفات أخرى منها: “التاريخ الكبير، توفي سنة 256 هـ. سير أعلام النبلاء 12/391، طبقات الحفاظ للسيوطي ص 252، الأعلام للزركلي 6/34
([5]) – أحمد بن على بن محمد أبو الفضل الكنانى العسقلانى القاهرى الشافعى المعروف بابن حجر، وهو لقب لبعض آبائه، الحافظ الكبير الشهير الإمام المنفرد بمعرفة الحديث وعلله فى الأزمنة المتأخرة، له مؤلفات عديدة، ومنها فتح الباري شرح صحيح البخاري، مات في أواخر ذى الحجة سنة 852 هـ. الضوء اللامع 2/36، البدر الطالع للشوكاني 1/78، معجم المؤلفين 2/20
([6]) – “نزعه عرق”: جذبه إليه وأظهر لونه عليه، فأشبهه والعرق الأصل من النسب، ينظر: فتح الباري 9/443-444
([7]) – جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (باب إذا عرض بنفي الولد) (كتاب الطلاق) رقم الحديث (5305). صحيح البخاري 7/53.
وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة (باب وحدثنا يحيى بن يحيى) (كتاب اللعان) رقم الحديث (3841) صحيح مسلم 4/211
([8]) – جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (باب من مات وعليه صوم) (كتاب الصيام) رقم الحديث (1953) صحيح البخاري 3/35 .
وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس أيضا (باب قضاء الصيام عن الميت) (كتاب الصيام) رقم الحديث (2749) . صحيح مسلم 3/155
([9]) – المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الأسدي الأندلسي المريي، مصنف ” شرح صحيح البخاري”، وكان أحد الأئمة الفصحاء، الموصوفين بالذكاء، توفي في شوال سنة 435 هـ. سيرأعلام النبلاء 17/579، معجم المؤلفين 13/31
([10]) – أحمد بن نصر الداودي الأسدي أبو جعفر من أئمة المالكية بالمغرب، وكان فقيهاً فاضلاً متقناً مؤلفاً مجيداً له حظ من اللسان والحديث والنظر، له مؤلفات، منها: النصحية في شرح البخاري، توفي بتلمسان سنة 402هـ. الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 1/165-166، ينظر تاريخ الإسلام للذهبي 9/41.
([11]) – علي بن خلف بن بطال البكري القرطبي ثم البلنسي أبو الحسن العلامة ، ويعرف بابن اللجام، أخذ عن أبي عمر الطلمنكي وابن عفيف وأبي المطرف القنازعي ويونس بن مغيث، قال ابن بشكوال: كان من أهل العلم والمعرفة، عني بالحديث العناية التامة، شرح “صحيح البخاري” في عدة أسفار، رواه الناس عنه، واستقضي بحصن لورقة، توفي في صفر سنة 449 هـ. سير أعلام النبلاء 18/47.
([12]) – سورة النساء: من الآية (113)
([13]) – جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني – رضي الله عنهما- (باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود) (كتاب الصلح) رقم الحديث (2695). صحيح البخاري 3/184
([14]) – سورة الحشر: من الآية (2)
([15]) – سورة آل عمران: من الآية (159)
([16]) – ينظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال 10/357، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 13/292