مراتب الفقهاء عند أهل العلم
مراتب الفقهاء عند أهل العلم
لقد اختلف العلماء في مراتب الفقهاء حسب قدراتهم على الاجتهاد والاستنباط والتخريج على مناهج متعددة، ربما تتفق هذه المناهج أو تختلف فيما بينها اختلافاً يسيراً، وأنا تتبّعت اختلافهم في هذه المراتب، فرأيت أن مراتب الفقهاء تنحصر في ستة أنواع: –
الأول : مجتهد مطلق مستقل
فأهل هذه الطبقة ليسوا تابعين لأحد، فهم الذين يقعّدون القواعد ويرسمون المنهاج لأنفسهم، ويفرّعون الفروع عليها، ويستنبطون الأحكام من الكتاب والسنة، ويعملون بالقياس والاستحسان وغير ذلك مما اشتمل عليه الاجتهاد، ويتصرفون في الأصول التي بنوا عليها اجتهاداتهم، ويتتبعون الكتاب والسنة لمعرفة الأحكام، ويقدّمون بعض الأدلة المتعارضة على بعض، ويتعرضون لمآخذ الأحكام في تلك الأدلة، ويتكلمون في هذه المسائل التي لم يسبق الجواب فيها أخذاً من تلك الأدلة .
وأهل هذه الطبقة هم فقهاء الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين-، وكبار التابعين وأصحاب المذاهب الأربعة – رحمهم الله أجمعين -، وغيرهم ممن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول[1].
يقول ابن قيم الجوزية[2] في هذا الصنف: “مجتهد مطلق وهو العالم بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأقوال الصحابة، يجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، فهذا النوع الذي يسوغ لهم الإفتاء ويسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرض الاجتهاد، وهم المجددون لهذا الدين”[3].
والثاني : مجتهد مطلق منتسب
أهل هذه الطبقة تابعون لإمامهم يسلّمون بأصوله، ويأخذون باجتهاداته من أدلتها، ويجتهدون على مقتضى أدلة إمامهم وأصوله، وقد يخالفون إمامهم في اجتهاداته في الفروع [4].
وقال السيوطي[5]– حمه الله -: “وأما المجتهد المطلق غير المستقل، فهو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد التي اتصف بها المجتهد المستقل، ثم لم يبتكر لنفسه قواعد، بل سلك طريقة إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد، فهذا مطلق منتسب لا مستقل ولا مقيد، هذا تحرير الفرق بينهما، فبين المستقل والمطلق عموم وخصوص، فكل مستقل مطلق وليس كل مطلق مستقلا “[6]
يقول ابن القيم في هذا الصنف: ” فهو مجتهد في معرفة فتاوي إمامه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، من غير أن يكون مقلداً لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه ورتّبه وقرّره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معاً”[7]
الثالث: المجتهد المقيد، أو مجتهد التخريج
أهل هذه الطبقة هم المتمكنون من تخريج الأحكام على نصوص إمامهم، فيتتبّعون إمامهم فيما انتهى إليه من أصول وفروع، ويعرفون أدلة الأحكام التي استنبطها إمامهم، وهؤلاء يسمون أصحاب الوجوه؛ لأنهم يخرِّجون مالم يُنَصّ عليه على أقوال الإمام، ويسمّى ذلك وجهاً في المذهب، أو قولاً فيه، فهي منسوبة للأصحاب، لا لإمام المذهب، وهذا مألوف في المذهبين الشافعي والحنبلي[8]
يقول ابن القيم في هذا الصنف : “مجتهد مقيد في مذهب من انتسب إليه، مقرِّر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة بل نصوص إمامه عنده كنصوص الشارع، قد اكتفى بها من كلفة التعب والمشقة، وقد كفاه إمامه استنباط الأحكام، ومؤنة استخراجها من النصوص، وشأن هؤلاء عجيب؛ إذ كيف أوصلهم اجتهادهم إلى كون إمامهم أعلمَ من غيره، وأن مذهبه هو الراجح، والصواب دائر معه، وقعد بهم اجتهادهم عن النظر في كلام الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – واستنباط الأحكام منه، وترجيح ما يشهد له النص”[9]
الرابع : مجتهد الترجيح
أهل هذه الطبقة لا يستنبطون أحكام فروع لم يجتهد فيها الأئمة، ولا يستنبطون أيضاً أحكام مسائل لم يعرف حكمها من قبل، إلا أنهم يرجحون بعض الأقوال على بعض بقوة الدليل، وهي التي أطلقها إمامهم، وذلك لتبحّرهم في مذهب إمامهم، فاجتهادهم لا يكون استنباطاً مستقلاً، ولا يكون تابعاً، فهم أصحاب الترجيح.
الخامس: مجتهد الفتيا:
وهذه الطبقة تقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات، وتميّز بين الأقوى والقويّ والضعيف، والراجح والمرجوح، ولكن عندها ضعف في تقرير الأدلة وتحرير الأقيسة، كأصحاب المتون المعتبرة من المتأخرين[10]،
يقول ابن القيم في هذا الصنف: مجتهد في مذهب من انتسب إليه، فحفظ فتاوى إمامه، وأقرّ على نفسه بالتقليد المحض له من جميع الوجوه، وذكر الكتاب والسنة عنده يكون على وجه التبرك والفضيلة لا على وجه الاحتجاج به والعمل، بل إذا رأى حديثاً صحيحاً مخالفاً لقول من انتسب إليه، أخذ بقوله وترك الحديث، فليس عند هؤلاء سوى التقليد المذموم[11].
وقد يقول قائل: كيف يستقيم وصف المقلد بالاجتهاد كما يفهم من كلام ابن القيم؟
الجواب من وجهين: الأول: أن الاجتهاد هنا يقصد به مطلق بذل الجهد وليس الاجتهاد المعروف في اصطلاح الأصوليين، والثاني: أن هذا الفقيه عنده قدرة على بذل الجهد والوصول إلى مرتبة الاجتهاد، ولكنه رضي بالتقليد لإمامه ومن هنا لحقه اللوم .
السادس: مقلد غير قادر على التمييز بين الأقوال:
طبقة المقلدين غيرالقادرين على التمييز بين الأقوى والقويّ والضعيف، ولا يفرّقون بين الغث والسمين [12].
ومما ينبغي الإشارة إليه أن هناك تقسيما آخر للفقهاء وهو ما ذكره السيوطي ناقلا عن ابن الصلاح[13] والنووي[14] – رحمهم الله – فقال: ” فانظر -رحمك الله- كيف قسما- يقصد ابن الصلاج والنووي- المجتهد الذي ليس بمستقل إلى أربعة أقسام، الأول: المطلق وهو الذي لم يقلد إمامه، ولكن سلك طريقه في الاجتهاد، الثاني: المقيد وهو الذي يسمى مجتهد التخريج، والثالث: مجتهد الترجيح، والرابع: مجتهد الفتيا، وإنما جاء الغلط لأهل عصرنا من ظنّهم ترادف المطلق والمستقل، وليس كذلك لما قد عرفته.[15]
وعلى ما سبق من كلام السيوطي – رحمه الله- فأصناف الفقهاء عنده خمسة، مجتهد مطلق مستقل، ومجتهد مطلق منتسب، ومجتهد التخريج، ومجتهد الترجيح، ومجتهد الفتيا.
د. مؤمن عالم
شروط المجتهد المتفق عليها والمختلف فيها عند الفقهاء
[1] – ينظر المذهب على أصول المذهب على المنتخب 1/43،45 (بتصرف)
[2] – (ابن قيم الجوزية) (691 – 751 ه = 1292 – 1350 م) محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، أبو عبد الله، شمس الدين: من أركان الاصلاح الاسلامي، وأحد كبار العلماء. مولده ووفاته في دمشق، تتلمذ لشيخ الاسلام ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شئ من أقواله، بل ينتصر له في جميع ما يصدر عنه،وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه، وسجن معه في قلعة دمشق، وأهين وعذب بسببه، وطيف به على جمل مضروبا بالعصى، وأطلق بعد موت ابن تيمية ، الأعلام 6/56
[3] – إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/162 (بتصرف)
[4] – ينظر المذهب على أصول المذهب على المنتخب 1/43،45 (بتصرف)
[5] – عبد الرحمن بن أبي بكر الخضيري الأصل، الطولوني، المصري، الشافعي جلال الدين أبو الفضل، عالم مشارك في أنواع من العلوم ولد في رجب، ونشأ بالقاهرة يتيما، وقرأ على جماعة من العلماء، ولما بلغ أربعين سنة اعتزل الناس وخلا بنفسه في روضة المقياس على النيل منزويا عن أصحابه جميعا، فألف أكثر كتبه، من مؤلفاته الدر المنثور في التفسير المأثور، المزهر في اللغة، الجامع الصغير في الحديث، حسن المخاضرة في أخبار مصر والقاهرة، توفي في 19 جمادي الأولى 911 هـ. البدر الطالع 1/328، معجم المؤلفين 5/128
[6] – الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، ص 39
[7] – إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/163 (بتصرف)
[8] – ينظر الفقه الإسلامي وأدلته 1/63
[9] – إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/213 (بتصرف)
[10] – الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي 1/63
[11] – إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/163 (بتصرف) المذهب على أصول المذهب على المنتخب 1/43،45 (بتصرف)
[12] – الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي 1/64
[13] – أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الكردي الشهرزوري المعروف بابن الصلاح، الشرخاني الملقب تقي الدين، الفقيه الشافعي؛ كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة، توفى ابن الصلاح بدمشق في سحر الأربعاء 25 ربيع الثاني سنة 643 هـ، وفيات الأعيان3/243، طبقات الشافعية الكبرى 8/226
[14] – يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن حزام بن محمد بن جمعة النووي، الشيخ الإمام العلامة محيي الدين أبو زكريا شيخ الإسلام أستاذ المتأخرين وحجة الله على اللاحقين والداعي إلى سبيل السالفين الشافعي، أبو زكريا، محيي الدين: عالما بالفقه والحديث، له مصنفات عديدة ، توفي سنة 676 هـ، طبقات الشافعية الكبرى 8/395، الأعلام للزركلي 8/149، معجم المؤلفين 13/202
[15] – الرد على من أخلد إلى الأرض ص 41-42، انظر: أدب المفتي والمستفتي لابن صلاح ص 86، وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي ص 22، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلاء الدين المرداوي 12/258-260