شروط المجتهد المتفق عليها والمختلف فيها عند الفقهاء
شروط المجتهد المتفق عليها والمختلف فيها عند الفقهاء
التمهيد
المجتهد: هو الفقيه الذي يستفرغ وسعه لتحصيل حكم شرعي ، ولابد أن يكون له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام الشرعية من مآخذها، وعلى هذا فإن من له دراية بالأحكام الشرعية، من غير أن يكون له قدرة على استنباطها من الأدلة، لا يسمى مجتهدا ، وللمجتهد في الإسلام منزلة رفيعة، فهو قائم مقام النبي صلى الله عليه و سلم بوصفه وارثا لعلم النبوة، ومبلغا إياه إلى الناس، وبوصفه معلما ومرشدا للأمة، فقد جاء في الحديث قول الرسول صلى الله عليه و سلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم) الحديث . ومنصب الاجتهاد من أسمى المناصب الدينية والدنيوية، لأن صاحبه يتكلم مبينا حكم الله سبحانه وتعالى ، ولقد كان الصحابة والتابعون يفهمون نصوص الشرع، ويدركون مقاصده بحكم سليقتهم العربية، وتتلمذهم على مصدر الشـرع وهو النبــي صلى الله عليه و سلم، فلم يكونوا بحاجة إلى قواعد تضبط لهم فهم النصوص واستنباط الأحكام، ولكن بعد أن طرأ على الناس ما أفسد سليقتهم العربية، وبعد الناس عن إدراك مقاصد الشرع، كان لابد من وضع ضوابط للاستنباط، وشروط للاجتهاد، وذلك تنظيما للاجتهاد، ومنعا لمن يحاول أن يندس بين المجتهدين ممن ليس أهلا للاجتهاد، فيتقوّل على الله بغير علم، ويفتي في دين الله بما ليس فيه.
وقد شدد بعض العلماء في شروط الاجتهاد وخفّف آخرون، ورأى جماعة منهم الاعتدال، ومع ذلك فإن جميع ما ذكروه من شروط مرده إجمالا إلى معرفة مصادر الشريعة ومقاصدها، وفهم أساليب اللغة العربية، وأن يكون المجتهد على درجة من الصلاح، تجعله يتحرى في اجتهاده، ويحرص على مطابقة شرع الله وتقديمه على هواه ، ومن هنا فقد ذكر العلماء شروطا لقبول الاجتهاد، وشروطا لصحة الاجتهاد، وانفرد بعض العلماء بذكر شروط لم يذكرها غيرهم.
وقال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه له : لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله بناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وتأويله وتنزيله ، ومكيه ومدنيه ، وما أريد به ، ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالناسخ والمنسوخ ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن ، ويكون بصيرا باللغة ، بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن ، ويستعمل هذا مع الإنصاف ، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار ، وتكون له قريحة بعد هذا ، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام ، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي .
وقال صالح بن أحمد : قلت لأبي : ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه ؟ فقال : ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن ، عالما بوجوه القرآن ، عالما بالأسانيد الصحيحة ، وذكر الكلام المتقدم .
وقال علي بن شقيق : قيل لابن المبارك : متى يفتي الرجل ؟ قال : إذا كان عالما بالأثر ، بصيرا بالرأي .
وقيل ليحيى بن أكثم : متى يجب للرجل أن يفتي ؟ فقال : إذا كان بصيرا بالرأي بصيرا بالأثر .
قلت : يريدان بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طردا وعكسا[1]
يشترط في المجتهد الذي يجوز له الاستنباط من الكتاب والسنة شروط عدة وبعضها متفق عليها وبعضها مختلف فيها وها هي الشروط إجمالا:
شروط قبول الاجتهاد
تتمثل في ثلاثة شروط يجب توفرها في من يتصدى للاجتهاد، وبدونها لا يقبل اجتهاده، وإن كان قادرا على الفهم والاستنباط، وهذه الشروط الثلاثة هي: الإسلام، والتكليف، والعدالة، ويكون شرحها على النحو الآتي:
1ـ أن يكون مسلما
يشترط في المجتهد أن يكون مسلما، لأن الاجتهاد عبادة، والإسلام شرط لصحة العبادة، وهو أيضا شرط قبول فتوى المرء واجتهاده، وليس شرطا في قدرة المرء على الاجتهاد، فقد يستطيع المرء أن يجتهد ويستنبط الأحكام وهو كافر، ولكن لا عبرة باجتهاده، يقول الآمدي: الشرط الأول: أن يعلم وجود الرب، وما يجب له من صفات، ويستحقه من الكمالات، وأنه واجب الوجود لذاته، حي عالم قادر مريد متكلم، حتى يتصور منه التكليف، وأن يكون مصدقا بالرسول عليه الصــلاة والسـلام، وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات، والآيات الباهرات، ليكون فيما يسنده إليه من الاقوال والاحكام محققا[2] .
وينقل الشاطبي في الموافقات عن النظام أنه أجاز وقوع الاجتهاد في الشريعة من غير المسلم، إذا كان الاجتهاد يبنى على مقدمات تفرض صحتها ، وأجيب عليه بأن هذا القول غير مستقيم، لأن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية لا يسوغ إلا لمن كان مؤمنا بها، أما من لم يتشبع بروح التشريــع اعتقــــادا وسلوكـــا، لن يصــل إلى معرفــة الأحكـــام على وجههـــا الصحيح . فأساس الاجتهاد في الإسلام الإيمان بالوحي، وبصدق الموحى إليه وهو الرسول صلى الله عليه و سلم، ومن لم يؤمن بالوحي وصاحبه، فكيف يجتهد مستندا إلى أساس، وهو غير مسلم به.
2 ـ أن يكون مكلفا
يشترط في المجتهد أن يكون بالغا عاقلا، حتى يتمكن من فهــم النصـوص والاستنباط منهــا، وإدراك مقاصــد التشريــع على الوجـــه الصحيح، ولا يتم ذلك لمجنون، ولا لمن ليس ببالغ، لعدم اكتمال ملكاته العقليــة التي يتــم بها الإدراك والتمييــز، ولذلك لا يتجــه إليــه التكليف، ولا يعتبر قوله، ولأن النضج العقلي أساس للاجتهاد، وغير المكلف غير مؤهل للنظر والاستنباط.
3 ـ أن يكون عدلا
العدالة شرط لقبول فتوى المجتهد والعمل بقوله، فلا تقبل فتوى الفاسق، ولا يعمل بقوله . والعدالة: ملكة في النّفس تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسّة كسرقة لقمة ، والرّذائل المباحة كالبول في الطّريق ، والمراد جنس الكبائر والرّذائل الصّادق بواحدة ، لا حاجة ؛ للإصرار على الصّغيرة ؛ لأنّها تصير كبيرة[3] ، وهي شروط لقبول الاجتهاد، فمن كان عدلا اطمأن القلب إلى تحريه، واستفراغه الوسع في طلب الدليل واستنباطه، وحرصه على مرضاة الله، ومن ليس عدلا وإن استطاع الاستنباط فلا يقبل اجتهاده، لأنه لا يطمئن إليه في ذلك يقول الإمام الغزالي في المجتهد : أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة ، وهذا يشترط لجواز الاعتماد على فتواه فمن ليس عدلا فلا تقبل فتواه ، أمّا هو في نفسه فلا ، فكأنّ العدالة شرط القبول للفتوى لا شرط صحّة الاجتهاد[4].
4- أن يكون عارفا بالكتاب
القرآن الكريم أصل الشريعة، فيشترط في المجتهد أن يكون عارفا بكتاب الله، وذلك بأن يكون له من العلم باللغة ما يعرف به معاني الآيات، وفهم مفرداتها ومركباتها وخواصها، فيستطيع بذلك أن يتدبر القرآن ويستنبط منه.. وأن يكون أيضا عارفا بالعلل والمعاني المؤثرة في الأحكام، وأوجه دلالة اللفظ على المعنى، من عبارة وإشارة، ودلالة واقتضاء، ومعرفة أقسام اللفظ من عام وخاص، ومطلق ومقيد، ومشترك ومجمل، ومفسر ومحكم ونحوها. وأن يكون عارفا بأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ من الآيات، من حيث مواقعها لا أن يجمعها ويحفظها فقد جمعت وحددت وكذلك لا يشترط في المجتهد أن يكون حافظا للقرآن الكريم، بل يكفي أن يكون عارفا بآيات الأحكام من حيث دلالتها ومواقعها، حتى يرجع إليها في وقت الحاجة ، ومع ذلك يجدر بالمجتهد أن يكون على اطلاع عام على معاني القرآن كله، حتى يستقيم فهمه وأخذه للأحكام من القرآن.
يقول الإمام الغزالي : أمّا كتاب اللّه عزّ وجلّ فهو الأصل ولا بدّ من معرفته ، ولنخفّف عنه أمرين : أحدهما : أنّه لا يشترط معرفة جميع الكتاب بل ما تتعلّق به الأحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية .
الثّاني : لا يشترط حفظها عن ظهر قلبه بل أن يكون عالما بمواضعها بحيث يطلب فيها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة[5]
يقول السمعاني : أما الشرط الثانى هو أن يكون مشرفا على ما تضمنه الكتاب من الأحكام الشرعية من عموم وخصوص ومبين ومجمل وناسخ ومنسوخ بنص أو فحوى أو ظاهر أومجمل ليستعمل النص فيما ورد والفحوى فيما يفيده والظاهر فيما يقتضيه والمجمل يطلب المراد منه[6]
5- أن يكون عارفا بالسنة
السنة هي المصدر الثاني للشريعة، وهي الشارحة للقرآن، وقد تؤسس لأحكام جديدة، فيجب على المجتهد أن يعرف السنة على النحو الذي بيناه في معرفة القرآن، ولا يلزمه حفظ جميع الأحاديث، وإنما يكفيه أن يعرف أحاديث الأحكام بحيث يكون قادرا على الرجوع إليها عند الاستنباط.
يقول الإمام الغزالي : وأمّا السّنّة فلا بدّ من معرفة الأحاديث الّتي تتعلّق بالأحكام ، وهي وإن كانت زائدة على ألوف فهي محصورة وفيها التّخفيفان المذكوران إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلّق من الأحاديث بالمواعظ وأحكام[7]
وقد اختلف العلماء في المقدار الذي يكفي المجتهد معرفته من السنة، (فنقل عن ابن العربي أنها ثلاثة آلاف، ونقل عن أحمد أنه قال: الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي صلى الله عليه و سلم، ينبغي أن تكون ألفا ومائتين. وروى ابن القيم أن أصول الأحاديث التي تدور عليها الأحكام خمسمائة، مفصلة في نحو أربعة آلاف حديث) .
وقال السمعاني : وأما الشرط الثالث هو بعرفة ما تضمنته السنة من الأحكام وعليه فيها خمسة شروط
أحدها : معرفة طرقها من تواتر وآحاد ليكون المتواتر معلومة والآحاد مظنونه
والثانى: معرفة صحة طرق الآحاد ومعرفة رواتها ليعمل بالصحيح منه ويعدل عن ما لا يصح منه
والثالث: أن يعرف أحكام الأفعال والأقوال ليعلم بما يوجبه كل واحد منهما
والرابع: أن يحفظ معانى ما انتفى الاحتمال عنه ويحفظ ألفاظ ما دخله الاحتمال ولا يلزمه حفظ الآسانيد وأسماء الرواة إذا عرف عدالتهم
والخامس: ترجيح ما يعارض من الأخبار ليأخذ ما يلزم العمل به[8]
وقال الشوكاني معلقا على هذا: (والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن كالأمهات الست وما يلحق بها مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات والكتب التي التزم مصنفوها الصحة ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له مستحضرة في ذهنه بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة الى ذلك وان يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف بحيث يعرف حال رجال الاسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة وليس من شرط ذلك أن يكون حافظا لحال الرجال عن ظهر قلب بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح وما لا يوجبه من الأسباب وما هو مقبول منها وما هو مردود وما هو قادح[9].
وبهذا فإنه يجب على المجتهد أن يكون واسع الاطلاع على السنة كلها، وأن يوجه مزيد اهتمام إلى أحاديث الأحكام، فقد توجد أحاديث بعيدة عن مجال الأحكام في الظاهر، ولكن الفقيه يستنبط منها من الأحكام ما قد يفوت غيره.
ويلزم المجتهد أن يكون على علم بمصطلح الحديث ورجاله، ولايجب أن يكون في درجة أهل الفن فن الحديث أنفسهم وإنما يكفيه أن يعتمد على ما انتهى إليه أهل هذا الفن
وتجدر الإشارة إلى أن البحث عن الأحاديث، والكشف عن درجتها في الصحة والضعف.. قد أصبح في زماننا أيسر بكثير من ذي قبل، وذلك لتوفر المعاجم والفهارس التي تدل على مواطن الأحاديث في كتبها الأصلية وأمهاتها المعتمدة، بحيث يستطيع الباحث أن يصل من خلال المعجم أو الفهرس إلى موضع الحديث في الكتب التي أوردته، والتي حكمت عليه وبينت درجته، وأيضا يستطيع من خلالها أن يعرف معظم الأحاديث المتعلقة بموضوع ما أو مسألة ما، بل وتكثر سهولة الوصول إلى الأحاديث والتعامل معها، إذا ما تم استعمال جهاز الحاسوب الآلي في تخزينها وبرمجتها.
6- أن يكون عارفا باللغة العربية
المصدران الأصليان للشريعة الإسلامية هما الكتاب والسنة، شاء الله أن يكونا باللغة العربية، لذلك يشترط لفهمهما واستنباط الأحكام منهما فهم قواعد اللغة العربية، وكيفية دلالات الألفاظ على المعاني، وحكم خـــواص اللفظ من عمـــوم وخصـوص، وحقيقــة ومجـاز وإطـــلاق، فمن لم يعــرف أساليب الخطـاب العربي لا يتمكن من استنبـاط الأحكــام من كلام الله ورسوله صلى الله عليه و سلم. ولا يشترط في المجتهد أن يكون إماما في اللغة، كسيبويه أو المبرّد وغيرهما، وإنما يكفيه معرفة القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال، إلى حد يميز به بين صريح الكلام وظاهره، ومجمله ومفســره، ومترادفه ومتباينـــه، بحيث يمكنـــه عند ذلك تفسيــر ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه.. ولا يشترط أن يكون حافظا عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك، وقد قربوها أحسن تقريب، وهذبوها أبلغ تهذيب، ورتبوها على حروف المعجم ترتيبا لا يصعب الكشف عنه، ولا يبعد الاطلاع عليه.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي يكفي في المجتهد بالتوسط في علوم العربية من لغة وإعراب وتصريف ومعان وبيان[10]
يقول الفتوحي : و يشترط فيه أيضا : أن يكون في علمه من النّحو واللّغة ما يكفيه فيما يتعلّق بهما أي بالنّحو واللّغة في كتاب اللّه سبحانه وتعالى ، وسنّة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من نصّ ، و من ظاهر ، و من مجمل ، ومبيّن ، و من حقيقة ومجاز ، و من أمر ، ونهي ، و من عامّ ، وخاصّ ، و من مستثنى ومستثنى منه ، و من مطلق ، ومقيّد ، و من دليل الخطاب ونحوه كفحوى الخطاب ولحنه ومفهومه ؛ لأنّ بعض الأحكام تتعلّق بذلك ، ووقف عليه توقّفا ضروريّا ، لقوله سبحانه وتعالى ” والجروح قصاص ” ؛ لأنّ الحكم يختلف برفع ” الجروح ” ونصبها ، ولأنّ من لا يعرف ذلك لا يتمكّن من استنباط الأحكام من الكتاب والسّنّة ؛ لأنّهما في الذّروة العليا من مراتب الإعجاز .
فلا بدّ من معرفته أوضاع العرب ، بحيث يتمكّن من حمل كتاب اللّه سبحانه وتعالى وكلام رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم على ما هو الرّاجح من أساليب العرب ومواقع كلامها[11]
يقول السمعاني : وقال بعض أصحابنا إذا عرف من اللغة ما يعلم به مراد الله تعالى ورسوله – صلى الله عليه وسلم – من الكتاب والسنة والخطاب الوارد فيهما وعرف موارد الخطاب ومصادره من الكتاب والسنة والحقيقة والمجاز والأمر والنهى والعام والخاص والمجمل والمفصل والمنطوق والمفهوم والمطلق والمقيد وعرف الناسخ والمنسوخ وعرف أحكام النسخ فهذا القدر كاف وهذا هو الأولى فى الشرائط التى سبق ذكرها[12]
7- أن يكون عارفا بأصول الفقه
أصول الفقه هو عماد الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه، فإن دليل الحكم يدل عليه بواسطة معينة، ككونه أمرا أو نهيا، عامّا أو خاصّا، ونحوها من قواعد دلالات الألفاظ، ولابد عند الاستنباط من معرفة تلك الكيفيات وحكم كل منها، ولا يعرف ذلك إلا في أصول الفقه. يقول الرازي مبينا أهمية علم الأصول: (إن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه) ويقول الغزالي: (إن أعظم علوم الاجتهاد: الحديث واللغة وأصول الفقه)[13] ،
ويقول الشيخ تقي الدين السبكي في شرط أصول الفقه للمجتهد : لا بد أن يكون له فيها ملكة وأن يكون مع ذلك قد أحاط بمعظم قواعد الشرع ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقاصد الشرع وكان هذا هو الذي عبر عنه الغزالي بفقه النفس[14]
يقول الشوكاني : أن يكون عالما بعلم أصول الفقه لاشتماله على نفس الحاجة إليه وعليه أن يطول الباع فيه ويطلع على مختصراته ومطولاته بما تبلغ به طاقته فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه وعليه أيضا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظرا يوصله إلى ما هو الحق فيها فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط فيه وخلط قال الفخر الرازي في المحصول وما أحسن ما قال أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه انتهى قال الغزالي إن عظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون الحديث واللغة وأصول الفقه[15]
فعلى طالب الاجتهاد أن يعرف أصول الفقه، بفهم قواعده العامة وأدلته الإجمالية، وكيفية الاستفادة من هذه الأدلة، وحال المستفيد منها ليزن نفسه بهذه المقاييس، فيقدم على الاجتهاد إذا أحس في نفسه تحقق هذه الشروط، ويحجم إذا اختل شرط، محاولا الوصول إلى صفات المجتهدين.
كما أنه بالأصول يعرف مباحث السنة، من حيث المقبول منها والمردود على وجه الإجمال ويعرف الإجماع من حيث ضوابطه وشروطه وحجيته، وكذلك يعرف القياس صحيحه وفاسده، ومسالك العلة وقوادحها. ويعرف أيضا الاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة، وغيرها من الأدلة التي اختلف فيها العلماء، ويبحث وجهات النظر فيها، ليصل بذلك إلى حكم خاص به.
يقول السمعاني: وأما الشرط الخامس هو معرفة القياس والاجتهاد والأصول التى يجوز تعليلها وما لا يجوز تعليلها والأوصاف التى يجوز أن يعلل بها وما لا يجوز أن يعلل بها وترتيب الأدلة بعضها على بعض ومعرفة الأولى فيها فيقدم الأولى ويؤخر ما لا يكون أولى ويعرف وجوه الترجيح ليقدم الراجح على المرجوح[16]
8- أن يكون عارفا بمقاصد الشريعة
مقاصد الشريعة من المباحث الأصولية المهمة التي يجب على المجتهد أن يعرفها جملة وتفصيلا، ليلتزم في اجتهاده بالأهداف العامة التي قصد التشريع حمايتها، والتي تدور حول حفظ مصالح الناس، المتمثلة في الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسب والمال، ومراعاة مصالح العباد، إذ أن فهم النصوص وتطبيقها على الوقائع، متوقف على معرفة مقاصد الشريعة، فمثلا قد تحتمل دلالة اللفظ على معناه أكثر من وجــه، ولا سبيل إلى ترجيح واحد منها إلا بملاحظة قصد الشارع، وقد تتعارض الأدلة الفرعية مع بعضها، فيأخذ بما هو الأوفق مع قصد الشارع.. وقد تحدث وقائع جديدة لا يعرف حكمها بالنصوص الموجودة في الشرع، فيلجأ إلى الاستحسـان أو المصلحـــة المرسلة أو العرف ونحوهــا، بالاهتداء بالمقاصـد العامـة للشريعة.
يقول الشاطبي: الشريعة مبنية على اعتبار المصالح وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك لا من حيث إدراك المكلف إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه و سلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله[17]
9- أن يكون عارفا بمواقع الإجماع
يجب على المجتهد العلم التام بمواقع الإجماع، حتى لا يجتهد أو يفتي بخلاف ما وقع عليه الإجماع، ولا يستلزم هذا حفظ جميع المسائل التي وقع فيها الإجماع، وإنمــا يكفي أن يعلـــم أن فتـــواه لا تخــالف حكما مجمعا عليه قال الزركشي : فليعرف مواقعه حتى لا يفتي بخلافه ولا يلزمه حفظ جميعه ، بل كل مسألة يفتي فيها يعلم أن فتواه ليست مخالفة للإجماع ، وإنما يوافقه مذهب عالم ، أو تكون الحادثة مولدة ولا بد مع ذلك أن يعرف الاختلاف ذكره الشافعي في الرسالة ” وفائدته حتى لا يحدث قولا يخالف أقوالهم فيخرج بذلك عن الإجماع[18].
يقول السيوطي: لا يشترط ضبط جميع مواضع الإجماع والاختلاف بل يكفي أن يعرف في المسألة التي يفتى فيها أن قوله لا يخالف الإجماع بأن يعلم أنه وافق بعض المتقدمين أو يغلب على ظنه أن المسألة لم يتكلم فيها الأولون بل تولدت في عصره[19]
ويقول الفتوحي: ويشترط فيه أيضا :أن يكون عالما بالمجمع عليه والمختلف فيه حتّى لا يفتي بخلاف ما أجمع عليه ، فيكون قد خرق الإجماع و بأسباب النّزول قاله ابن حمدان وغيره من أصحابنا وغيرهم في الآيات ، وأسباب قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في الأحاديث ؛ ليعرف المراد من ذلك وما يتعلّق بهما من تخصيص أو تعميم[20] .
يقول الشوكاني : أن يكون عارفا بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل[21]
ويجب على المجتهد أيضا أن يعرف القواعد الكلية للفقه الإسلامي، ليكتسب بذلك ملكة يفهم بها مقصود الشارع.
10- أن يكون عارفا بالناسخ والمنسوخ
قال الطوفي : (قوله: «والناسخ والمنسوخ منهما»، أي: من الكتاب والسنة، لأن المنسوخ بطل حكمه، وصار العمل على الناسخ، فإن لم يعرف الناسخ من المنسوخ، أفضى إلى إثبات المنفي، ونفي المثبت … «ويكفيه» من معرفة الناسخ والمنسوخ أن يعرف «أن دليل هذا الحكم غير منسوخ»، يعني ولا يشترط أن يعرف جميع الأحاديث المنسوخة من الناسخة، والإحاطة بمعرفة ذلك أيسر من غيره، لقلة المنسوخ بالنسبة إلى المحكم من الكتاب والسنة[22]
11- أن يكون عارفا بأحوال عصره
لابد للمجتهد من فهم أحوال عصره وظروف مجتمعه الذي يعيش فيه، ليتمكن بذلك من تكييف الوقائع التي يجتهد في استنباط أحكام لها، ويأتي حكمه عليها سليما، وفهمه لها صحيحا، فالمجتهد كالمفتي لابد له من معرفة واقعة الاستفتاء، ودراسة الظروف الاجتماعية المحيطة بها، والعوامل المؤثرة في الواقعة، وبذلك تكون فتواه معالجة للواقع القائم (فمعرفة الناس أصل يحتاج إلىه المجتهد، وإلا أفسد أكثر مما أصلح، فعليه أن يكون عالما بالأمر والنهي، وطبائع الناس وعوائدهم، وأعرافهم، والمتغيرات الطارئة في حياتهم، فالفتوى قد تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال.
شروط المجتهد المختلف فيها
ذكر بعض الأصوليين شروطا أخرى للاجتهاد، غير تلك الشروط التي ذكرها معظم الأصوليين، ومن هذه الشروط الآتي:
12 ـ أن يكون عالما بأصول الدين:
اشترطه بعض الأصوليين ولم يشترطه آخرون، ويبدو أن الذين اشترطوه يقصدون به العلم بالضروريات، كالعلم بوجود الرب سبحانه وصفاته وما يستحقه، والتصديق بالرسل وما جاءوا به، وهذا أمر لابد من معرفته، والذين لم يشترطوه ربما أرادوا به ما يدخل في علم الكلام، إذ لا علاقة له بالاجتهاد، ولكن البارع فيه يكون أقوى على الاجتهاد، لأن العلوم يقوي بعضها بعضا، يقول الفتوحي: و لا يشترط في المجتهد أن يكون عالما بعلم الكلام أي علم أصول الدّين ، قاله الأصوليّون ، لكنّ الرّافعيّ قال : إنّ الأصحاب عدّوا من شروط الاجتهاد معرفة أصول العقائد قال البرماويّ : والجمع بين الكلامين ما أشار إليه الغزاليّ ، حيث قال : وعندي أنّه يكفي اعتقاد جازم ، ولا يشترط معرفتها على طريقة المتكلّمين بأدلّتهم الّتي يحرّرونها[23]
13 ـ أن يكون عالما بالفروع الفقهية:
ذكر بعض الأصوليين شرط العلم بالفروع الفقهية، ولم يذكره آخرون وقد قال الفتوحي : و لا يشترط في المجتهد أن يكون عالما ب تفاريع الفقه ؛ لأنّ المجتهد هو الّذي يولّدها ويتصرّف فيها ، فلو كان ذلك شرطا فيها للزم الدّور ؛ لأنّها نتيجة الاجتهاد فلا يكون الاجتهاد نتيجتها و لا علم الكلام أي علم أصول الدّين ، قاله الأصوليّون ، لكنّ الرّافعيّ قال : إنّ الأصحاب عدّوا من شروط الاجتهاد معرفة أصول العقائد قال البرماويّ : والجمع بين الكلامين ما أشار إليه الغزاليّ ، حيث قال : وعندي أنّه يكفي اعتقاد جازم ، ولا يشترط معرفتها على طريقة المتكلّمين بأدلّتهم الّتي يحرّرونها [24].
وبالتأمل في هذا الشرط، نجد أن الفروع الفقهية هي ثمرة الاجتهاد، فلا داعي للعلم والإحاطة بها، إلا أن تكون معرفتها من باب الممارسة على الاجتهاد، حتى تحصل بذلك دربة عليه، من خلال فهم اختلافات الفقهاء في المسائل، ودليل كل طرف فيما ذهب إليه ومناقشته للطرف الآخر، فلا شك أن هذا الأمر ينفع طالب الاجتهاد كثيـــــرا.. ومـــن هنـــا فالذي ذهب إلى اشتراطــــه نظــر إلى فائدتــه، والذي لم يشترطه نظر إلى أن الفروع الفقهيـــة هي ثمـــرة الاجتهــاد فلا داعي لهــا، قـــال الشافعــي رحمــه الله: ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب
ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل وحتى يفرِّق بين المشتبه ولا يَعْجَلَ بالقول به دون التثبيت[25].
14 ـ أن يكون عالما بالدليل العقلي:
شرطه جماعـــة منهــم الغــزالي والرازي، ولم يشترطه آخرون، لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية لا على الأدلة العقلية.
والمراد بالدليل العقلي: عند من اشترطه هو مستند النفي الأصلي للأحكام، فإن العقل قد دل على نفي الحرج في الأقوال والأفعال، وعلى نفي الأحكام عنها في صور لا نهاية لها. أما ما سنته الأدلة السمعية من الكتاب والسنة فالمستثناة محصورة، وإن كانت كثيرة فينبغي أن يرجع في كل واقعة إلى النفي الأصلي والبراءة الأصلية، ويعلم أن ذلك لا يغير إلا بنص أو قياس قال الزركشي: فليعرفه بشروطه وأركانه ، فإنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه ويحتاج إليه في بعض المسائل فمن لا يعرف ذلك لا يمكنه الاستنباط في تلك المواضع نعم ، إن جوزنا تجزؤ الاجتهاد فهذه الحاجة لا تعم والمسائل التي ترجع إلى النص لا يحتاج إلى ذلك فيها قال ابن دقيق العيد قال : ويلزم من اشتراط هذا أن لا يكون الظاهرية النفاة للقياس مجتهدين .[26].
هذه هي شروط المجتهد المعتبرة في الفقه الإسلامي
أهم المصادر:
-
الإحكام للآمدي
-
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول
-
إعلام الموقعين عن رب العالمين
-
البحر المحيط
-
البحر المحيط للزركشي
-
تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد
-
الرسالة للإمام الشافعي
-
شرح الكوكب المنير
-
شرح مختصر الروضة
-
قواطع الأدلة في الأصول
-
قواطع الأدلة في الأصول
-
المستصفى
-
الموافقات في أصول الشريعة
بقلم المشرف على الوقع
———————-
[1] – إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/59
[2] – الأحكام للآمدي 4/162
[3] – البحر المحيط 5/294
[4] – المستصفى 2/363
[5] – المستصفى 2/363
[6] – قواطع الأدلة في الأصول 2 /304
[7] – المستصفى 2/363
[8] – قواطع الأدلة في الأصول 2 /304
[9] – إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول 1/370
[10] – تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد 1/9
[11] – شرح الكوكب المنير 3/47
[12] – قواطع الأدلة في الأصول 2/306
[13] – إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول 1/370
[14] – تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد 1/9
[15] – إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول 1/370
[16] – قواطع الأدلة في الأصول2/306
[17] – الموافقات في أصول الشريعة 4/106
[18] – البحر المحيط للزركشي 8/233
[19] – تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد 1/7
[20] – شرح الكوكب المنير 3/47
[21] – إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول 1/370
[22] – شرح مختصر الروضة 3/580
[23] – شرح الكوكب المنير 3/47
[24] – شرح الكوكب المنير 3/47
[25] – الرسالة للإمام الشافعي 1/509
[26] – البحر المحيط 8/233
مراتب الفقهاء عند أهل العلم